البحرين هي جزيرة صغيرة في الخليج العربي، تتمتع بموقع استراتيجي وثروة نفطية. لقرون طويلة، كانت تحت سلطة أو تأثير قوى خارجية، مثل الفرس والبرتغال والعثمانيين. وفي القرن التاسع عشر، دخلت في علاقة حماية مع بريطانيا، التي ساعدتها في الدفاع عن استقلالها من مطالبات إيران والسعودية. وفي منتصف القرن العشرين، شهدت البحرين تحركات وطنية وشعبية تطالب بإنهاء الحماية البريطانية وإقامة نظام ديمقراطي. وفي عام ١٩٧١، أعلنت البحرين استقلالها عن بريطانيا، وأصبحت دولة مستقلة وسيادة. وفي هذا المقال، سنتابع مسار استقلال البحرين، والعوامل والأحداث التي أثرت فيه، والصعوبات والتحديات التي واجهته.
الشرارة الأولى: إضراب عمال شركة نفط البحرين
في ٧ آذار (مارس) ١٩٦٥، أعلنت شركة نفط البحرين، التي تملكها شركة كالتكس الأمريكية، طرد مئات الموظفين البحرانيين من أعمالهم بسبب تخفيض التكاليف. فما كان من باقي العمال إلا أن أعلنوا القيام بإضراب احتجاجاً على ما حصل لزملائهم. ولم يبق هذا الإضراب ضمن إطار شركة نفط البحرين بل تعدّى حدودها وامتد إلى المدارس والأسواق والمصانع. ومع هذا التحزّك بدأت سلسلة من الإضرابات والمظاهرات التي شهدت شتى أنواع العنف، واستمر الوضع على حاله لمدة ٣ أشهر.
قمع الشرطة وتدخل بريطانيا
في ١٠ آذار (مارس)، وضع العمال حاجزاً عند الشارع المؤدي إلى مصفاة النفط في سترو، وكانت الإضرابات والمظاهرات تعم شوارع المنامة والمحرق. فلم يعجب هذا الأمر الشرطة التي أوعزت إلى أفرادها بإطلاق النار على المتظاهرين. فوقع نتيجة هذا العنف قتيلان: عبدالله عباس في المحرق، وأحمد علي في المنامة. ولم يقتصر العنف على البحرانيين وحسب، بل شمل أيضاً العمال البريطانيين في شركة نفط البحرين، حيث تعرضوا للاستهداف من قبل مجهولين.
وفي ١٥ آذار (مارس) بلغ عدد القتلى ٤ أشخاص، ووصل عدد الجرحى إلى ٢٧ والمعتقلين إلى ٤٣. وورد في صحيفة الغارديان البريطانية في ٢٤ آذار (مارس) مقال عن البحرين جاء فيه:”إن الإضراب العام الذي حصل في البحرين هو محاولة لإبراز قوّة المعارضة ضد حكومة الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة (تسلَّمَ الحكم بعد وفاة والده في آب ١٩٦١)، التي تستند إلى الحماية البريطانية. وتستمد الاضطرابات قوّتها الأساسية من الطبقة العاملة التي تعاني من مشاكل اقتصادية إلى جانب المشاكل السياسية. ولذلك هي اضطرابات تختلف عما حدث سنة ١٩٥٦ التي حرضت عليها عناصر بورجوازية تسعى للمشاركة في الحكم. وليس من الواضح مدى الدعم الذي تحصل عليه كلّ من المنظمات الست التي تدّعي انها الحركات القيادية. خلال الفترة الماضية كانت هناك محاولة لجر مشيخات الخليج إلى النهج السياسي العربي العام، ولكن يعتقد أن الشيوعيين والبعثيين والناصريين لا يحظون بتأييد كبير في البلاد. وتطالب حركة المعارضة بالحريات الأساسية السياسية وحرية تكوين النقابات العمالية. أما الحكومة فلم تفعل أكثر من تعيين لجنة للنظر في أسباب اعتقال عمال النفط. وقد رفضت المعارضة ذلك، مطالبة بتكوين لجنة من الحكومة والعمال ومعظم أفرادها ينتخبون من بين العمال. وإذا لم يتنازل كلّ طرف عن موقفه فسوف يكون هناك اختبار لقوّة الإرادة لكلا الجانبين، وسوف تصبح بريطانيا داخلة في القضية بشكل كبير. وقد استُخدِمَتْ القوات البريطانية المرابطة في البلاد لقمع الاضطرابات في حالة واحدة على الأقل”.
التحالف: تشكيل جبهة القوى التقدمية
واستغلت قوى المعارضة في البحرين، التي تضم مختلف التيارات السياسية من شيوعية وبعثية وناصرية، فرصة التصعيد وتجمَّعَتْ ضمن جبهة واحدة أطلق عليها اسم (جبهة القوى التقدمية) وأصدرت بياناً في ١٥ آذار (مارس) لخصت فيه أهدافها. في الواقع، سعت هذه الجبهة إلى إعادة العمال المفصولين إلى وظائفهم وإعطاء العمال حق تشكيل نقابات خاصة بهم وإطلاق العنان لحرية التعبير والصحافة والتجمُّعِ والتظاهر. فضلاً عن إطلاق سراح الأسرى وطرد المستشارين.
خلافات داخل جبهة القوى التقدمية
غير أن خلافات ظهرت في صلب جبهة القوى التقدمية ممّا أضعفها وشتت قواها. فبعد ١٠ أيام من إصدار البيان، رفعت جبهة القوى القومية مذكرة إلى الحكومة تعرض فيها مطالبها وراحت توزّع المنشورات وتقيم اتصالات مع الدول العربية المجاورة والمنظمات الدولية. وكانت هذه الجبهة تضم البعثيين والناصريين والقوميين، وكانت تسعى لإسقاط نظام آل خليفة وإنشاء جمهورية ديمقراطية في البحرين. أما جبهة القوى الديمقراطية ، التي تضم الشيوعيين والاشتراكيين والديمقراطيين، فكانت تطالب بإصلاحات سياسية واجتماعية دون التطرق إلى مسألة نظام الحكم. وكان هناك اختلاف بين الجبهتين حول موقفهما من بريطانيا، حيث كانت الجبهة القومية ترى أن بريطانيا هي العدو الأول للثورة، بينما كانت الجبهة الديمقراطية ترى أن بريطانيا هي حليف محتمل للضغط على آل خليفة لإجراء التغييرات المطلوبة.
عمليات شغب وعنف من قبل المواطنين
رد المواطنون البحرانيون على ما مارسته الحكومة بدعم من بريطانيا بعمليات شغب وعنف كان منها تدمير مستودعات الذخيرة الحربية البريطانية وإضرام النيران في السيارات ومحطات البنزين وتشكيل فرق تقوم بعمليات فدائية وكتابة شعارات على الجدران والقيام بتفجيرات. فما كان من السلطات البريطانية إلا أن استخدمت الأسلحة لمواجهة المواطنين ورمت الطائرات الحربية القنابل المسيلة للدموع والغاز المولد للتقيؤ. فوصل عدد القتلى في شهر نيسان (أبريل) من تلك السنة إلى ٩ والمعتقلين إلى ٨٠٠ شخص.
زيارة الأمير فيليب ومظاهرات واحتجاجات
في ٢٤ آذار (مارس) توقف الأمير فيليب زوج الملكة البريطانية في البحرين في طريق عودته من الباكستان. فتجمع المواطنون في الشوارع وأقاموا حواجز عدة في انتظار الزائر. فأطلقت الشرطة النار على المتظاهرين فقتل أحدهم. وأثار هذا الحادث نقمة الشعب فراحوا يرمون الحجارة على السيارات الحكومية وآليات النقل. منعت هذه الأحداث الأمير من التوجه براً إلى قصر المعتمد السياسي، لذلك نُقل في طوافة. وخلال زيارته التي استغرقت ثلاث ساعات، التقى بالشيخ عيسى وبعض المسؤولين، وأكد على دعم بريطانيا لحكومة آل خليفة. وفور مغادرته، اندلعت مظاهرات جديدة في شوارع المنامة ورفع المحتجون شعارات مناهضة لبريطانيا وآل خليفة.
استقلال البحرين
بريطانيا تعلن انسحابها
عقد مجلس الوزراء البريطاني اجتماعاً في ٤ كانون الثاني ١٩٦٨ تقرّر على أثره تخفيض نفقات بريطانيا في الخارج وبالتالي سوف تضطر إلى التخلي عن التزاماتها العسكرية في الشرق الأقصى وشرق السويس. وحدّد شهر آذار (مارس) ١٩٧١ كحد أقصى لانسحابها من هذه المناطق. فأوكلت مهمة غورنوي روبرتس مهمة نقل هذا الخبر إلى شيوخ الامارات الخليجية. على اثر هذا القرار نصحت الحكومة البريطانية حكام مشيخات الخليج التوحد ضمن إطار فيدرالية عامة. فاجتمع حكام المشايخ السبع في الساحل المتصالح وهي ابو ظبي وعمان ودبي والفجيرة ورأس الخيمة والشارقة وام القيوين مع البحرين وقطر في دبي لمدّة ثلاثة أيام (من ٢٥ إلى ٢٧ شباط/ فبراير). ونتج عن ذلك إصدار قرار تكوين اتحاد فدرالي للامارات العربية. ولكن هذا الاتحاد لم يستمر طويلاً، فقطر انسحبت منه بعد شهور قليلة، والبحرين لم تنضم إليه بسبب مطالبة إيران بضمها.
إيران كانت تزعم أن البحرين جزء من أرضها، وأن سكانها يشكلون أغلبية شيعية مثلها. وكانت تستند إلى بعض التاريخ المشترك بين البلدين، وإلى معاهدة عام ١٨٥٧ التي أبرمتها مع بريطانيا، والتي تضمنت اعتراف بريطانيا بسلطة إيران على جزيرة خارج كوست. وكانت إيران تخشى من أن يؤدي انضمام البحرين إلى الاتحاد إلى تغير التوازن الإستراتيجي في المنطقة، خصوصاً، إذا ما انضمت إليه تركيا أو باكستان. ولذلك، رفضت إيران الاعتراف بالاتحاد، وطالبت بإجراء استفتاء شعبي في البحرين تحت إشراف الأمم المتحدة.
بريطانيا، التي كانت ترغب في حل سلمي للمسألة، وافقت على طلب إيران، ودعت إلى إرسال بعثة تقصي من الأمم المتحدة إلى البحرين لمعرفة رغبة الشعب. وفي ١١ أيلول (سبتمبر) ١٩٧٠، وصل رئيس البعثة الإيطالي فينشنزو فينكو إلى المنامة، وقام بزيارات ولقاءات مع مختلف الفئات والقوى السياسية والاجتماعية في البحرين. وفي ٢٥ أيلول (سبتمبر)، قدم تقريره إلى الأمين العام للأمم المتحدة، والذي جاء فيه أن أغلبية ساحقة من سكان البحرين ترغب في استقلالها عن إيران وبريطانيا، وفي تشكيل دولة مستقلة بقيادة آل خليفة. وأوصى التقرير بإجراء انتخابات لمجلس تأسيسي يضع دستورًا للدولة الجديدة.
انسحاب بريطانيا وإقامة علاقات دولية
في كانون الثاني (يناير) ١٩٧١ قام ويليام لوس بجولة في الخليج العربي زار خلالها السعودية والبحرين ومشيخات الساحل المتصالح وقطر وعمان والكويت وطهران. وثبت له بعد زيارته أن الخلافات عميقة وجذرية بين هذه المشايخ. وطرح وجهة نظره على البرلمان البريطاني، لكن بريطانيا ظلت مصرّة على انسحابها من المنطقة، على الرغم من الفراغ الذي سيلحق به ذلك.في آذار (مارس) من السنة نفسها أعلن وزير الخارجية البريطانية أن القوات البريطانية سوف تنسحب من الخليج في نهاية السنة. أما في ما يتعلق بشاه ايران، فكان يطالب بالحصول على جزر ابو موسى (تابعةً للشارقة) وطنب الصغرى وطنب الكبرى (تابعتين لرأس الخيمة) مقابل تنازله عن البحرين.
وافقت بريطانيا على تسليم الجزر لإيران بشرط أن تحتفظ بحقوقها في استخدام المرافئ والمنشآت العسكرية فيها. وفي ٣٠ نوفمبر (تشرين الثاني) ١٩٧١، وقعت بريطانيا وإيران والشارقة ورأس الخيمة اتفاقية تنظيم العلاقات بينهم بشأن الجزر. وفي اليوم التالي، دخلت قوات إيرانية الجزر وأزالت العلم البريطاني ورفعت علم إيران.
اعلان البحرين الإستقلال
في ١٥ آب (أغسطس) ١٩٧١، أعلنت البحرين استقلالها عن بريطانيا، واستبدلت الاتفاقات المبرمة سابقاً مع بريطانيا باتفاقية صداقة تستمر خمسة عشرة سنة، تقوم على التشاور بين البلدين عند الحاجة. وفي ١٨ آب (أغسطس) قبلت البحرين كعضو في منظمة الامم المتحدة، وفي نهاية شهر أيلول (سبتمبر) من السنة نفسها انضمت إلى جامعة الدول العربية.
في ١٦ كانون الأول (ديسمبر) ١٩٧١ تم تشكيل ما عرف في ما بعد بمجلس الوزراء وعيّنت لجنة قانونية لوضع قوانين جديدة للبلاد، شارك فيها دكتور حسين البحارنة وسعيد جاسم العريض. وفي ٢٣ من الشهر نفسه وقعت البحرين اتفاقية مع الولايات المتحدة تحلّ بها في الاستمرار باستخدام قاعدة الجفير. وتضم القوات الاميركية التي تتواجد في هذه القاعدة مدمرة و٢٦٠ بحاراً.
وفي ١ فبراير (شباط) ١٩٧٢، أصدر شيخ عيسى بن سلمان آل خليفة مرسوم أميري بإعلان دستور مؤقت للبحرين، يضم ٤ حقائب وزارية هي: شؤون خارجية، داخلية، مالية وإعلام. كما أصدر مرسوم آخر بإنشاء مجلس استشاري يضم ١٢ عضوا يختارهم من بين رجالات المجتمع. وفي ٢ ديسمبر (كانون الأول) ١٩٧٣، أجريت أول انتخابات نيابية في تاريخ البحرين، حيث اختير ٣٠ نائبا من بين ۱۱۲ مرشحا لمجلس الشعب. وفي ۱۶ ديسمبر (كانون الأول) ١٩٧۳، افتتح شيخ عيسى أول جلسة للمجلس، وأكد على حرصه على تطوير النظام الديمقراطي في البحرين. وفي ۱۴ فبراير (شباط) ۱۹۷۴، تم تعيين أول حكومة مدنية في البحرين، برئاسة خليفة بن سلمان آل خليفة. وفي ۲۶ مارس (آذار) ۱۹۷۵، أصدر شيخ عيسى مرسوما بحل مجلس الشعب، بعد أن دخل في خلافات مع الحكومة حول بعض القضايا السياسية والاقتصادية. وفي ۲ مايو (أيار) ۱۹۷۵، أصدر مرسوما آخر بإلغاء الدستور المؤقت، وإعادة المجلس الاستشاري إلى وظائفه. وبذلك انتهت المرحلة الديمقراطية الأولى في تاريخ البحرين.
No Comment! Be the first one.