التوبة من الكبائر السبع الموبقات ، عندما يتعلق الأمر بالتوبة فيجب أن تعلم أنها واجبة على كل مسلم من جميع الذنوب، كبيرة كانت أو صغيرة.حيث يرجع فيها المسلم إلى الله سبحانه وتعالى،ويدعو له بالغفران،ويعزم على ترك المعصية وعدم العودة إليها والندم على فعلها .وأن من رحمة الله على عباده أنه يغفر الذنوب مهما كثرت صغيرة كانت أو كبيرة ،لقوله تعالى :”قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ“.ويجب أن تستوفي شروطها وهي الندم ،والإقلاع ،والعزم على عدم العودة ،ورد المظالم إلى أهلها.ولا تكون التوبة من الكبائر اثناء خروج الروح كما فى قوله تعالى :”وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا “.
إذاً فالتوبة من الكبائر السبع الموبقات تقع ضمن مسألتين :مسألة غيبية بين العبد وربه وهنا لا يمكن الحكم فيها بين قبول التوبه وعدم قبولها .وفيها تظهر صفات الله سبحانه من الرحمة والقدرة والمغفرة على عباده المسلمين.أما المسألة الثانيه وهى التى سندرسها فى موضوعنا هذا ،وهى المسألة العلمية أو الفقهية .
وهى مسألة تكون بين المسلم ونفسه أو بين المسلم ومجتمعه .وفيها قد تطبق بعض الأحكام ولا يكتفي بالتوبة كالسرقة مثلا وفيها تقطع يد السارق ،أو الزنا وفيها يجلد الزاني ثمانون جلدة.هذه الأحكام تعرف بالحد،وفيها يسارع المسلم بتخليص نفسه من الذنوب في الدنيا ،قبل ان يلاقي عذابها في الأخرة .كما أن فيها ظهور للندم وقوة الإيمان للمسلم ،بعيداً عن المسألة الغيبية التي ذكرناها .وبما أن دين الإسلام دين العدل ،فأن هذه الأحكام والقوانين لبعض المعاصي والكبائر ،فيها تحقيق للعدالة الإجتماعية .لما فيها من أذية الغير ،كأذية المسروق فى ماله ،وأذية الزاني فى عرضه وعرض اسرته.فكان من الواجب دراسة هذه الأحكام،ومن هنا ظهرت كثير من الأراء الفقهية.
ما هي الكبائر السبع الموبقات
هي من أشد الكبائر واهلكها للإنسان ،اطلق عليها الرسول إسم الموبقات فى حديثه، ليشير الى شدتها عند الله سبحانه وتعالى.كما ان الموبقات هى الذنوب التى تبق على المسلم فليس معها رجاء من الخروج من جهنم الى الجنه إن مات الإنسان على إحداها أو أكثر.وهي كما ذكرهم الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه:عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “اجتنبوا السبع الموبقات.قالوا: يا رسول الله، وما هن؟ قال:الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات“، متفق عليه رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما.
التوبة من الشرك بالله
المشرك هو من اشرك الله سبحانه فى إلهيته .فحكم توبته مقبولة عند الله بإجماع إذا استوفى شروط التوبة،ولا يلزم لتوبته حد شرعي يلزم تطبيقه.فيغفر الله له إذا تاب ورجع ويمحو جميع ذنوبه في سابق أعماله ،سواء كان التائب مشركاً فى الأصل أو كان مسلماً ،لقوله تعالى :”قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ“. ولقول الله تعالى:” قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ“. أما توبة المشرك الذي لم يستوفي شروط التوبة ،الندم ،والإقلاع ،والعزم على عدم العودة .ففيها أقوال اخرى:
حكم من مات على الشرك دون توبة؟
المسلم الذي أشرك ثم مات على شركه قبل أن يتوب ،فأن الله سبحانه وتعالى لا يغفر له ووعدهم بالنار،لقوله تعالى :”إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ “. وفيه قال الطبري في تفسيره للآية: فحرم الله تعالى المغفرة على من مات وهو كافر.ويؤيد ذلك ما رواه مسلم وغيره من حديث جابر.أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله: ما الموجبتان؟ فقال: “من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار“.
حكم توبة المشرك الذي عاد الى الشرك بعد توبة سابقة ؟
باب التوبة مفتوح لكل عبد ، ولو وقع في الذنب والكفر مرّاتٍ ومرّاتٍ.فإنَّ كرمه سبحانه وتعالى ورحمته بعباده اقتضت أن تقبل توبة التائب ويغفر له ذنبه،إن كان صادقاً في توبته .يقول الله عز وجل : ” قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ“.لكن من ارتد عن الإسلام ثم ازداد كفرا وطغيانا ، ولم يتب ، ولم يرجع واستمر على ضلاله حتى مات.فإنه لا توبة بعد موته ، ولا يغفر الله له.ولا يجعل له مما هو فيه فرجا ولا مخرجا ولا طريقا إلى الهدى.وهذا قول ابن كثير رحمه الله في تفسير قول الله تعالى :”إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً “.كما اختلفت أراء الفقهاء فى مسالة من تكررت ردته .فمنهم قال عدم قبول توبته وقتله نظراً لكونه مرتد.والأكثر والصحيح منهم من قال تقبل توبته،وتجري عليه أحكام الإسلام.والخلاف هنا بين أهل العلم هو في قبول التوبة من حيث أحكام الظاهر ، وليس بالنسبة لما عند الله سبحانه وتعالى .
التوبة من السحر
فالساحر وطالب السحر يعاملان معاملة المشرك لكونهما طلبا العون من غير الله، وهذا إشراك وكفر بالله سبحانه وتعالى.فيغفر الله لهم إذا تابو بصدق وندمو على ما فعلو ،وعزمو على ترك السحر ،كما جاء في قوله تعالى عن سحرة فرعون :”إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى“.
فإن كان فاعل السحر أو طالبه قد أفسد بسِحره أحوال بعض الناس أو أتلفَ أموالهم فهو ضامن لما أتلفه.ومِن تمام توبته أن يقوم بالتعويض عن ذالك إن قدر عليه.وإن كان مما لا يصحُّ التعويض عنه أو كان عاجزاً عن التعويض، فإن استطاعت أنْ يتحلَّلهم فلْيفْعَلْ.وإن لم يستطِع التصريح لهم بذلك فليسْتُر على نفسه، وليدعو لهم بالخير، وليكثر من الاستغفار والعمل الصالح.
وهذا بالنسبة لقبول التوبة لما عند الله سبحانه وتعالى،أي بينه وبين الله.أما قبول توبة الساحر فى الظاهر ،إذا ثبت سحرة ووصل أمره الى القضاة.فلا توبة له ويجب قتله لردته ،ولحماية المجتمع من شره .وهذا الثابت عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ،في قتله منعاً للفساد وردع لغيره من إخوانه السحرة .كما أمر عمر رضي الله عنه عماله بقتل السحرة من غير استتابة.وهكذا حفصة رضي الله عنها أم المؤمنين أمرت بقتل جارية لها سحرتها، ولم تستتبها.
حكم توبة القاتل المتعمد
تعمد قتل المسلم بغير حق كبيرة من أكبر الكبائر، وجريمة من أعظم الجرائم، توعد الله تعالى عليها بقوله تعالى:” وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا “.((سورة النساء /الأية 93)) وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:” لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق“. رواه الترمذي وابن ماجه وغيرهما، وصححه الألباني.مسألة التوبة من القتل العمد فيها إختلافات وأراء بين الفقهاء .لما فيها من حقوق للمقتول،وحقوق لله فى التعدي على خلقه،وحقوق أولياء المقتول.
إختلاف أراء الفقهاء فى حكم توبة القاتل
1- جمهور الفقهاء :ذهبو الى أن للقاتل عمدًا ظلمًا توبة كسائر أصحاب الكبائر؛ للنصوصِ الخاصة الواردة في ذلك، والنصوصِ العامة الواردة في قبول توبة كل الناس.
2- رأي الحنفية : لا تصح توبة القاتل بالاستغفار والندامة فقط، بل تتوقف على إرضاء أولياء المقتول، فإن كان القتل عمداً فلا بد أن يمكنهم من القصاص منه فإن أرادوا قتلوه، وإن أرادوا عفوا عنه ، فإن عفوا عنه كفته التوبة ويبرأ في الدنيا.
3- رأي المالكية : يرون أن توبة القاتل عمداً مقبولة ،وقال القرطبي في ذالك :وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْل السُّنَّةِ ، وهو الصحيح .
4- رأي الشافعية : يرون أن أكبر الكبائر بعد الكفر القتل ظلما وبالقود أو العفو لا تبقى مطالبة أخروية، بقاء حق الله تعالى فإنه لا يسقط إلا بتوبة صحيحة ومجرد التمكين من القود لا يفيد إلا إن انضم إليه ندم من حيث المعصية وعزم عدم العودة.
5- رأي الحنابلة : يرون أنه لا يسقط حق المقتول في الآخرة بمجرد التوبة كسائر حقوقه ، فعلى هذا يأخذ المقتول من حسنات القاتل بقدر مظلمته .
6- رأي ابن كثير : وعليه الجمهور من سلف الأمة وخلفها،وهو أن القاتل له توبة فيما بينه وبين ربه عز وجل، فإن تاب وأناب وخشع وخضع ، وعمل عملا صالحا ، بدل الله سيئاته حسنات ، وعوض المقتول من ظلامته وأرضاه عن طلابته.
7- رأي ابن القيم : قتل المؤمن عمدا يتعلق به ثلاثة حقوق : حق الله عز وجل ، وحق المقتول ، وحق لأولياء المقتول ، فإن تاب القاتل توبة نصوحا سقط حق الله ، وإن سَلَّم نفسه للأولياء فاقتصوا منه أو أخذوا الدية ، أو عَفَوْا ، سقط حق الأولياء ، وبقي حق المقتول ، ويُرجى أن يسقطه الله عنه ويعوض المقتول من فضله .
التوبة من الربا
الله سبحانه وتعالى حرم الربا وشدد الوعيد فيه ، قال سبحانه وتعالى:”الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ” إلى أن قال : ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ . فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ“. وروى عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ :”لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آكِلَ الرِّبَا وَمُؤْكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ , وَقَالَ : هُمْ سَوَاءٌ “.ولكن لا يوجد ذنب إلا وغفره الله تعالى اذا تاب صاحبه وطلب المغفرة من سبحانه .لذا فأن الواجب على من اقترض بالربا أن يتوب إلى الله تعالى.ويندم على ما فات ، ويعزم على عدم العود إلى هذا الذنب العظيم . ومن شروط صحة توبة المقترض بالفوائد الربوية هو أن يتخلص من المعاملة الربوية ما دام المال المقترض موجوداً.فإذا غابت عين هذا المال رد مثله بدون فائدة إن استطاع ذلك.وإن لم تستطع ذالك بموقب القوانين الدوليه فأكمله وإلتزم بتوبتك وعدم الرجوع لهذه المعصية ،وأدعو الله أن يغفر لك.
حكم توبة أكل مال اليتيم
أكل مال اليتامى بغير حق من كبائر الذنوب ، وقد توعد الله تعالى فاعلها بوعيد شديد .فقال سبحانه وتعالى :” إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا“.فالتوبة من تلك المعصية لها حقان حق الله تعالى ،وحق اليتامى.فمن شروط توبة أكل مال اليتيم أن يرد الأموال التي أخذها إلى أصحابها إن كانوا أحياءً.أو إلى ورثتهم إن كانوا قد ماتوا،بطريقة أو بأخرى، وليس هناك حاجة إلى المصارحة بذلك.
توبة المتولي يوم الزحف
التولي يوم الزحف هو الفرار من المعركة إثناء الحرب ،وهو من اشد الكبائر واعظمها .حيث إنها تبين الضعف فى دين الأسلام ،كما انها قد تسبب الهزيمة والخسارة فى الأرواح فى الحرب.وقد نهانا الله سبحانه، ورسوله من هذا الذنب وتم ذكر ذالك فى كثير من الأيات والأحاديث .ومنها وعد الله المتولي يوم الزحف بالنار في قوله: “وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ“.ومع ذالك لم يصدر احكام فقهية على المتولي يوم الزحف سواء انهزم جيشه أو انتصر .لكن يجب أن يعلم ان رحمة الله واسعة وباب التوبة مفتوح دائماً .فيجب عليه أن يسارع فى التوبه ويندم على ذالك ويدعو الله بالمغفرة .كما انه يعزم على عدم تكرار ذالك،ويعوض ذالك اذا شارك فى اخرى.
حكم توبة القاذف
إن كان المقذوف لم يعلم بالقذف،فإن توبة القاذف بناء على ما صححه بعض أهل العلم.أن يكذب نفسه، ومعنى ذلك أن يخبر القاذف من سمعه حال القذف أنه كان كاذبًا، أو ينفي ما قاله، ويقر بأنه أخطا في ذلك.و إذا كان المقذوف قد علم بأن شخصًا قد قذف.فلا يقام عليه حد القذف إلا بتوفر شروطه، ومن بينها مطالبة المقذوف بذلك.
أما ما يتعلق بالآخرة،فإن كان القاذف قد تاب في الدنيا توبة صادقة من هذه المعصية التي ارتكبها،فإن توبته مقبولة -إن شاء الله- ومن ثم فلا مؤاخذة عليه.وإن مات قبل التوبة، فأمره إلى الله إن شاء عذبه،وإن شاء غفر له.
والله أعلم
No Comment! Be the first one.